ابن يجبش التازي الشاعر الصوفي المجاهد

لقد أنجب إقليم تازة في مختلف العصور عددا من الفقهاء والمفتين وأكابر المقرئين ورجال التصوف الكبار، كما أنجب مجموعة من الناظمين والشعراء وبالأخص الشعراء الذين جمعوا بين الشعروالتصوف مثل:

1 - إبراهيم التازي اللتني الشاعر الصوفي الرحالة المتوفى بوهران سنة 866 هـ والذي خلف من الشعر الصوفي لحد الآن أكثر من مائتي بيت.

2 - أحمد بن فتوح التازي الذي كان حيا أواسط القرن الثاني عشر الهجري، وقد ترك من الشعر 240 بيتا في المديح النبوي ومدح أولياء الزاوية الشرقاوية التي كانت له علاقة وثيقة برجالها وتوفي ببوجعد.

3 - أحمد الحبيب اليعقوبي الرشيدي الشاعر الصوفي دفين رشيدة. 

4 - أحمد زروق البرنوسي الشاعر الصوفي الذي خلف ما يقرب من مائة مؤلف ما بين شروح وقصائد في الفقه والتصوف وغيرهما.

5 - الشاعر المجاهد بأدبه أبي عبد الله محمد بن عبد الرحيم الشهير بابن يجبش التازي المتوفى بتازة عام  920 هـ . ودفن بالزاوية الجبشية التي تحمل اسمه بتازة العليا.

وإذا أردنا أن نصف ابن يجبش بالتعبير العصري فإننا نقول: إنه كان شاعرا مجاهدا سخر قلمه ومؤهلاته الفكرية وثقافته الإسلامية الواسعة للدفاع عن قضايا المغرب كغيره من الأدباء المغاربة المجاهدين.

يقول صاحب "الاستقصاء" ج 4 ص 118 : "ولما نزل بأهل المغرب ما نزل من غلبة عدو الدين واستيلائه على ثغور المسلمين، تباروا في جهاده وقتاله، وأعملوا الخيل والرجل في مقارعته ونزاله، وتوفرت دواعي الخاصة منهم والعامة على ذلك، وصرفوا وجوه العزم لتحصيل الثواب فيما هنالك، فكم من رئيس قوم لنصرة الدين غيرة واحتسابا، وكم من ولي عصر أو عالم مصر باع نفسه من الله وولى ذلك صوابا، حتى لقد استشهد منهم أقوام وأُسِر آخرون، وبلغ الله تعالى جميعهم من الثواب ما يرجون". وقد ألف الناس في ذلك العصر التأليف في الحض على الجهاد والترغيب فيه، وقال الخطباء والوعاظ في ذلك فأكثروا ونظم الأدباء والشعراء فيه ونثروا.

فممن ألف في ذلك الباب فأفاد الشيخ الصوفي ابن يجبش التازي" وصاحب "الاستقصا" يشير بهذه الكلمة الموجزة إلى الكتاب الذي ألفه ابن يجبش للحض على الجهاد وذيله بقصيدة رائعة يحض فيهما على الجهاد والاستشهاد لتحرير الشواطئ المغربية المحتلة والذي عنوانه: "تنبيه الهمم العالية على الصدقة والانتصار للملة الزاكية وقمع الشرذمة الطاغية".

 

وإذن لم يكن ابن يجيش متصوفا مبتعدا عن المجتمع المغربي، غير مهتم بمشاكله ولا منفردا في زاوية يردد فيها الأوراد، والوطن المغربي تئن أجزاء منه تحت ضربات المحتلين، بل عاش أحداث وطنه وتتبعها بفكره وقلبه ولسانه، وسجلها في هذا الكتاب الذي ختمه بقصيدة بلغت 168 بيتا.

وكيف يقبل ابن يجيش أن يظل منعزلا عن هذه الأحداث الوطنية، وهو يعلم علم اليقين مكانة المجاهد عند الله تعالى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي الذي شاقته العزلة حين مضى إلى شعب (مسيل الماء في بطن أرض) فيه عيينة من ماء عذبة وحدثته نفسه بأن يجنح إلى تلك البقعة، وأن يقبل على ربه، فما يفتر عن ذكره في صباح وأصيل: "لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله تعالى أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة اغزوا في سبيل الله من قاتل في سبيل الله فوق ناقته وجبت له الجنة" رواه الترمذي.

والحديث غني عن كل تحليل أو تعليق.

وتطبيقا لمضمون الآثار التي تيين الفضل العظيم والثواب الكريم الذي أعده الله لمن يحرض على الجهاد والاستشهاد وشعورا منه بالواجب الملقى على عاتق العلماء العاملين بعلمهم، واستجابة للروح الإسلامية العميقة التي تأبى الذل والهوان للوطن الإسلامي العام فما بالك بالوطن الإسلامي الخاص؟ فقد ارتفع صوته قويا يحض على الجهاد والاستشهاد لتحرير الشواطئ المغربية التي احتلت من طرف البرتغاليين فقد احتلت أصيلا سنة 874 هـ والجديدة عام 910هـ .

إذن فظروف هذا النص نثرا وشعرا- كما يقول أساتذة الأدب - هي احتلال بعض الشواطئ المغربية، وقد انفعل ابن يجيش مع هذا الواقع المرير وجعل التحريض على الجهاد والاستشهاد بالقلم واللسان هو ورده ووظيفته، والدعوة إلى الثورة المسلحة لافتكاك الثغور المحتلة هو الشعار الذي ظل يردده.

ولاشك أن الجهاد باللسان يمثل مظهرا من مظاهر الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد هجاه قوم من قريش: "ما يمنع الذين نصروا رسول الله بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم"  فقال حسان بن ثابت: "أنا لها يا رسول الله" وأخذ بطرف لسانه "والله لو وضعته على صخر لفلقه وعلى شعر لحلقه"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "كيف تهجوهم وأنا منهم؟" فقال: "أسُلك منهم كما تُسل الشعرة من العجين"، وروى الإمام أحمد عن كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه".

فقد قال - رحمه الله - في آخر كتاب الجهاد:

"وها أنا أقبض العنان عما طغى به القلم واللسان فلما فرغت من إنشاء هذه الجملة، التي تكون -إن شاء الله - سبيا لتنبيه الخلق مما هم فيه من الغفلة، تأملت حال الاخوان وما هم فيه من الكرب والذلة والهوان، أسال الله العظيم أن يفك أسرهم. وأن ييسر لسبيل النجاة أمرهم، فأدركتني عليهم شفقة الإيمان وترنمت بين جوانحي بلابل الأشجان وهطلت بواكف عبرتها العينان وأراد ان يترجم لساني عما أضمره جناني بنظم قصيدة جامعة لما تقدم من تلك المعاني وقلت: لعل النظم أوقع في النقوس وأقرب لأن يصغي إليه وتنحط إليه الرؤوس فقلت على الحال ونطق اللسان وقال:

 

أبى القلب سلوانا ومن لي بسلـــــوة

ونومي حفا من أجل مابي مقلتـــــــي

وصــرت حليف الحـــــزن مما كتمتـــــه

وبين ضلوعــي مثل كي بجمــــــــــــرة

وللقلب مابين الجوانح زفــــــــــــــــرة

ودمعي على الخدين يحكي لمزنتــــي

ولم أستطع صبرا وكيف يصــــــــح لي

وقد هتكت من ديننا كل حرمـــــــــــة

وشاركنا الأعداء في قطر غربنـــــــــــا

وقد اخذ واجل البلاد البهيـــــــــــــــــة

وقد أرعبت تلك السواحل منهـــــــــم

وصاروا يؤدون الخراج كجزيــــــــــــــــة

فـهذا هوان واحتقار وذلـــــــــــــــــــة

وعـار شنيع ثم قلة حيلــــــــــــــــــــــة

فصرت إذا أدعو وأرغب راجيــــــــــــــــا

ولي في الذي أرجوه أصدق لهجــــــة

ولا تدبروا عن القتال فمن يمـــــــــــت

شهيدا ينل من كل خير ونعمــــــــــــة

ويدرك رضوان الإلــــــــه ولـــــــم يذق

عقابا ولا هولا غدا دون مريــــــــــــــة

ويُعطى من الخيرات ما قد يريـــــــده

وتلقاه الحور الحسان بتحفــــــــــــــة

كذا قال خير العالميـــــــن محمـــــــد

هو الصادق المصدوق في كل قصة

ثم يختم شاعرنا الصوفي المجاهد قصيدته بهذا الدعاء الخالص:

 

فنسأل مـولانــــــا بـجـــــــاه نبيـــــه

خلاصا وتوفيقا لكل فضيلــــــــــــــة

وإن ينقذ الإخوان من حال كربهـــــم

وينجيهم من كل خوف ومحنـــــــــة

وأن يهلــك الأعداء حتى يبيدهـــــــم

ويجعلهم فينا لأفضل أمــــــــــــــــة

وينصر جيش المسلمين بـعـــــــــــزه

ويجمع منهم كل شمل مشـــــــتت

وعم بغفران جميع ذنـويــــــــــــــــنـا

بجاه شفيع الخلق في كل زلـــــــــة

عليه صلاة الله ثم سلامــــــــــــــــه

متى رمت الأطيار في كل دوحــــــة

وأصحابه والـــــــــــــلائذين بحبــــــه

عليهم من الرحمـــان أزكى تحيــــــة

 

اللهم يا من له القوة والاقتدار والعزة والانتصار ويكور النهار على الليل والليل على النهار، إنا توجهنا إليك بجاه نبيك المصطفى وأصحابه الخلفا، أن تفتح لنا من خزائن رحمتك بابا لا تغلقه معاصينا، وأن تجود بفضلك وكرمك على مطيعنا وعاصينا، وأن تدخلنا في حزب أولئك المهتدين وأن تكفينا شر أعدائك المعتدين، وأن تبلغ قصدنا في تفريج ما أهمنا من أمور الدنيا والدين، إنك على كل شي قدير ... إلخ.

وهذا الكتاب مع القصيدة نشرهما المرحوم الباحث السيد أبو بكر البوخصيي من كتابه القيم "أضواء على أبن يجبش التازي" المطبوع سنة 1976م. وقد قال المرحوم الباحث السيد محمد المنوني في كتابه "المصادر العربية لتاريخ المغرب" ج 1 ص 127 عن هذا الكتاب: "يمثل في إطار عصره لونا من الأدب البطولي حيث كتبه ابن يجبش امتعاضا لأزمة الشواطئ المغربية ومن بينها أصيلا التي كانت حديثة العهد بالاحتلال فيتجاوب المؤلف مع هذا الواقع، ويكتب خطابا مطولا في قسميه المنثور والمنظوم، يذكر فيه بما يعانيه الأسرى المسلمون بالأندلس وأصيلا من صنوف التعذيب الوحشي، ثم يوجه النداء إلى العاطفة الإسلامية والنخوة المغربية، داعيا في نفس طويل إلى الجهاد لتحرير الثغور المغربية ووقف المد الاستعماري، كما مدح هذا الكتاب مؤلف "دوحة الناشر...... بقوله "فهذا الشيخ ممن ساد فأجاد واتكأ عليه الزمان فكان نِعم الوِساد، وقد وقفت له على تأليف ألفه في الحض على الجهاد في سبيل الله تعالى فكان ينبغي ان يتناول باليدين، ويكتب دون المراد باللجين أودعه نظما ونثراً"


يتبع ...