بطل من ذهب . شب. وترعرع في مدرسة المعاناة وركب غمار التحدي ليثبت الذات... تفجرت فيه غواية المغامرة منذ الصبا... لم يؤثر فيه زحف السنين، رغم سنواته التي تنيف عن الخمسين لازال يتحرك في أعماقه طفل صغير، يضحك ببساطة بريئة، ويجهش بالبكاء كلما لامست وترا من أوتار حياته الحساسة... تطارده صور تازة وأحلامها في الحل والترحال، ويحمل في جوانحه غصة اغترابها وشحوبها... لكنه لازال متأكدا أنها ستنبعث مشرقة وباسمة، وستحيا من جديد لتحتضن أبناءها البررة، وتكتب فصلا آخر من فصول الدفء والمودة.


التقى به الأستاذ عبد الحق عبودة خلال فعاليات ملتقى تازة الدولي للتنمية المحلية الذي نظمته شبكة تازة التنموية في الفترة الممتدة بين 19 و 23 يوليوز ،2010، وأجرى معه الحوار التالي:


- 1 - حدثنا عن البدايات، متى وكيف؟

- ج- : كانت الانطلاقة من دوار لا كار" الصفيحي (المحطة)، أتذكر أنني كنت مشاغبـــــا بارعا ومغامرا عنيدا ، تفننت في ملاعبة الأبقار والجمال، التي كان أبي يتاجر فيها، وقد حدث أن تعرضت الكسور وجروح بليغة نتيجة هذا الشغب... الكل كان يشهد باندفاعي وحماسي الزائدين، وقد كدت أهلك في إحدى المرات بسبب ذلك، حيث ألقيت بنفسي في إحدى الأودية لإنقاذ أحد أبناء الدوار من الغرق، لكن الألطاف الإلهية حالت دون ذلك.


-2- لماذا اخترت الرياضة كمدخل لتحقيق الذات؟

-ج- : شاب مثلي: فقير ، يعيش في حي صفيحي، بجوار طبقات ميسورة ، لم يجد أمامه من وسيلة للاندماج في هذا المحيط سوى الرياضة، وقد ساعدتني في ذلك بنيتي الجسمانية القوية، وشغبي المفرط، واستطعت أن ألفت انتباه أقراني وأربط صداقات معهم بسرعة ، وفي سنة 1974 انخرطت في "الجمعية التازية لفنون الحرب" التي كان يشرف عليها بعض اليابانيين، وتسلم فيما إدارتها الأستاذ يحيي جفال.


- 3- الموهبة، العمل الجاد المتواصل والإمكانيات، ثالوث الشهرة ، ماذا توفر لك من ذلك؟

-ج- : توفرت لدي الموهبة - والله الحمد- وصقلتها بالاجتهاد الفردي والمثابرة اليومية الشاقة ، ودخلت غمار التداريب الوطنية، لن يتصور أحد حجم التضحيات المادية التي بذلتها ، كنت أقتطع من مصروف أبنائي وأنفق كي أستمر ، وبفضل هذا السطو الأبوي المشروع على رزق أبنائي ، استطعت أن أدخل خمس مرات كتاب "غينيس للأرقام القياسية". كانت شعبيتي هي سندي، وحب الجمهور حافزا قويا للاستمرار لم أكن ألتفت إلى الوراء، ولم أكن أعطي اعتباراً لأي شيء سوى لهذا الحلم الجميل الذي يراودني ويسكنني، وهو أن أرى اسم تازة شامخا وطنيا ودوليا.


-4- إذن لماذا قررت الرحيل عن تازة التي تعشقها؟

- ج- : كان قرار الرحيل عن تازة صعبا، أحسست أن قلبي ينفطر، انتابتني أحاسيس الضياع، تصورت في لحظة من اللحظات أن كل شيء سينتهي مع هذا الفراق ، تساءلت هل يمكن لمكان آخر في العالم أن يرحب بهذا المشاغب العنيد؟ وهل بوسعي أن أبدأ من جديد وأربط علاقات. امع أمكنة غريبة وأناس آخرين؟ لكن مع كل هذا غامرت كعادتي - بالابتعاد وتغيير الوجهة والمستقر، إيمانا مني أن الهجرة ستمنحني نفسا جديدا وستفتح أمامي أبواب ثقافات أخرى ، أستطيع من خلالها أن اتعرف على أبطال عالميين، وأواصل التعريف بمدينة تازة ووطني المغرب.


- 5- ما هي أشد لحظات الظلم التي واجهتك؟

-ج-: في سنة 1996 توصلت بدعوة لتنظيم عروض في ملتقى ألعاب بلا حدود بمدينة بوردو الفرنسية، لم أجد من يساهم حتى بتذكرة السفر ، تدبرت أمري وسافرت على نفقتي الخاصة، كانت عروضي ناجحة ومبهرة - والله الحمد، أحسست بفخر لا يضاهى وأنا أرفع راية المغرب، واسم مدينة تازة أمام جمهور من الجالية المغاربية إضافة إلى الأجانب، وحظيت العروض بتغطية كبيرة وواسعة من طرف الصحافة المكتوبة وكذا القنوات التلفزية مثل القناتين الأولى والثالثة الفرنسيتين تذكرت بمرارة تنكر مسئولي مدينة تازة، وزيف شعاراتهم ، وحز في نفسي أن يكون أمر تازة وأبنائها بيد هؤلاء الانتهازيين. لحظة أخرى من أقسى اللحظات في حياتي وأشدها وطأة ومرارة، هي الطريقة المهينة التي تعامل معي رئيس المجلس البلدي سنة 1997 ، كانت المناسبة هي استدعائي لتنظيم عروض في مدينة تولوز ، لم أكن أملك ثمن التذكرة ، توجهت إلى رئيس الجماعة الحضرية ازة الجديدة، لتأمين تذكرة السفر ، لكنه فاجأني وصدمني حين قال لي " اسمح لي أسي ادريس، سير تسلف من عند شي واحد، حتى نردوها لية"... لم أجد أمامي سوى صاحبي دكانين كانت تربطني بهما علاقة طيبة، اقترضت منهما ، وقد سددت الدين بعد ذلك من مداخيل النادي الذي كنت أديره.

تحضرني كذلك في هذا الصدد ذكرى قاسية، مع وزير الشبيبة والرياضة سنة 1995، حين أخبرته أني دخلت كتاب غينيس للأرقام القياسية، مع شهادة اعتراف عالمية، وطلبت تعويضي عن ذلك، فخاطبني قائلا: " نتوما صحاب الشرق ما كتفهموش، ما عندي ما نعطيك".. فاتصلت بالحاج المديوري الذي وبخه، وأمره أن ينظر في أمري بجدية ومسئولية، إلا أن الوزير تهرب بطريقة ماكرة وتعلل بحجة أنه مسافر مع المنتخب الوطني لفرنسا. عموما فالظلم سمة في البشر ، وفي تازة هناك أشخاص كثيرون مارسوا علي أبشع أنواع المكائد والمكر، لكن البعض منهم عاد واعترف بذلك وطلب الصفح.


- 6- وماذا عن ظلمك أنت للآخرين؟

-ج- لم يحدث أن ظلمت أحدا ، كنت خير صديق لجميع من عرفتهم وعرفوني،وكانت علاقاتي مؤسسة على تفهم الآخرين، وحين كنت أصل إلى الباب المسدود مع البعض كنت أطبق قاعدة "التيقار" وهي أحسن حل لتفادي ردود الأفعال التي ينتج عنها أحيانا ظلم الآخر ، ولعل قوة الاحترام الذي يكنه لي كل التلاميذ والأجيال الذين تتلمذوا وتخرجوا على يدي خير دليل وخير نتيجة للطريقة التي كنت أعاملهم بها ... وفي مرات كثيرة أجهش بالبكاء حين أرى أن إطارا محترما يفاجئني بكلمة شكر

واعتراف ويجهر أمام الناس أنني أستاذه وأنه تعلم علي يدي الشيء الكثير.


-7- الظلم والتنكر يدفعان إلى التذمر وقد يؤديان إلى التوقف، وأنت أكملت المسيرة ولازلت تعد بالكثير ، ألم تتعب؟

-ج- : " الضربة اللي ما تقتل "تقوي" ... هذا الظلم أعطاني شحنة قوية وأمدني بطاقة جبارة كي أواصل التحدي وأستمر بصبر وعناد وكبرياء ، ومع كل عقبة كانت توضع أمامي كنت أحس أني على الطريق السليم، لأن الشجرة المثمرة هي التي ترمى بالحجارة... وأود بهذه المناسبة أن أتوجه عبر جريدة مصتازا المناضلة والمحترمة بنصيحة لكل سائر في درب التحدي ، وكل ذي موهبة في كل الميادين، أن ينحت في الصخر ولا يدع رياح الإحباط ترجعه إلى الخلف، وأن يؤمن بأن مسافة الألف ميل تبدأ بخطوة.


-8- كنت صيدا ثمينا لشبكة تازة التنموية ، وقد علمت أنك من مؤسسيها ، حدثنا عن الظروف التي أوقعت بك في هذه الشبكة؟

- ج- : (بابتسامة عريضة) : كنت دائما حرا طليقا، مستعصيا عن المحاصرة ، لكنني سقطت فريسة سهلة في شبكة تازة التنموية، وقد أحببت هذا الشرك الجميل ومستعد أن ابذل كل ما بوسعي أن أبقى داخله. 

قبل تأسيس شبكة تازة التنموية، جلست مع السيد لكبير الحراق ،وآخرين، ولمست غيرتهم القوية على إقليم تازة، وعزمهم على تكريس ثقافة جمعوية جديدة قائمة على المبادرة الخلاقة وطرح البدائل التي من شأنها أن تسهم في تنمية تازة، كان يوم التأسيس رائعا، عرفت حينها كـم هـم عظماء هؤلاء التازيون... إنهم أشخاص بسطاء بداخلهم براكين قوية من المحبة والنبل وحب الخير، أناس غاية في الوداعة والمروءة والتفاني في الصالح العام، وقد سرني كثيرا أن أرى نساء محترمات، فتيات وأمهات ينخرطن بشغف ويبدين إصرارا منقطع النظير على تحمل المسئولية... كل هذا ولد لدي اقتناع بتصور شبكة تازة التنموية ومشاريعها . وقد غبت بعد ذلك مدة غير يسيرة بالديار الأوروبية حيث أقيم وأعمل، وفي العطلة الصيفية لابنتي جئت إلى تازة، وتزامن ذلك مع انطلاق فعاليات ملتقى تازة الدولي للتنمية المحلية، أسعدني كثيرا أن أرى المولود الذي الجمعوي قد خطا خطواته الأولى في

درب النجاح.

كانت أمسية الأبطال المبرمجة في إطار الملتقى رائعة بكل المقاييس، حضرها أبطال وطنيون ودوليون، في رياضتي الفول كونتاكت والكيغ بوكسينغ، ودعمتها الشبكة ماديا ومعنويا، إنها لحظة سعادة لا توصف، حظيت فيها بتكريم خاص من طرف أصدقائي وتلامذتي الذين أعتبرهم أبنائي الأبرار، وهنا أقف وقفة إجلال وتقدير لجمعية المدربين للفولوكونتاكت ، والكيغ بوكسينغ، والطاي بوكسينغ والسومي كونتاكت ، وهي رياضات أعنز بكوني أول من أدخلها إلى مدينة تازة سنة 1991.


- 9- ماذا تعني لك الأسماء التالية؟ 

- تازة: " شايلاه أسيدي عزوز ... تازة هي الحضن الدافء... الأم الحنون المعطاء، هي الرحمة والنسيم الذي ينعش الروح... مسقط الرأس ومرتع الطفولة والشغب البريء، والله ياخذ الحق ف المسؤولين.

- محمد شهيد: فنان و شاعر صادق، من الذين ظلموا كثيرا ولم ينالوا ما يستحقونه، أتذكر يوم زارته الصحافة الوطنية في كوخه العتيق بالقرب من مقبرة سيدي عبد النور ، ويحز في نفسي أن يكون في تازة فنان مثل شهيد ويعامل بهذه اللامبالاة. وقد أعادت له شبكة تازة التنموية اعتباره.

- عبد الفتاح -أولهاني : خطير بآلة تصويره وهدوئه، يحضر برغبته ويذهب برغبته.

- يحي جفال- : أحترمه بسلبياته وإيجابياته.

- محمد العلوي الباهي: ذاكرة المدينة، أخذت عنه أدب الكلام ، صادق إلى أقصى الحدود، كتب سيرتي لكن لم يجد من يدعم طبعها.


- 10 - كلمتك الأخيرة؟

-ج- : شكرا لموقع مصتازا ولك أخي الكريم عبد الحق، تحية للناس" الزينين والناس الملاح".